الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القاسمي: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.أي: دفعة واحدة في وقت واحد. وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: نقوّيه به على القيام بأعباء الرسالة، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة. فإن ما يتواتر إنزاله لذلك، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة، من نزوله مرة واحدة: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أي: فصلناه تفصيلًا بديعًا، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده.قال القاشانيّ: الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر، مدّة يمكن فيها ترسخه في قلبه، وأن يصير ملكة لا حالًا: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي: بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح: {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي: الذي يقمع تلك الصفة. كما قال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (18)، {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي: بيانًا وهداية، عناية بك وبما أرسلت من أجله، وخذلانًا لأعداء الحق وخصوم الرشاد.تنبيه:يذكر المفسرون هاهنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة، كنزول بقية الكتب جملة. ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة، صحيح. فيأخذون لأجله في سرّ مفارقة التنزيل له. والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له، وليس عليه أثارة من علم، ولا يصححه عقل. فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهيّ الثبوت. لمقدار مكث النبيّ. إذ ما دام بين ظهراني قومه، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة. ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين، يتجلى له ذلك واضحًا لا مرية فيه. وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك. وما كل كلام معرّض به. وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص، وتعنت متفنن فيه. والله أعلم. اهـ..قال ابن عاشور: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.عود إلى معاذيرهم وتعلّلاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نُزّل منجّمًا وقالوا: لو كان من عند الله لنَزل كتابًا جملةً واحدة.وضمير {وقال} ظاهر في أنه عائد إلى المشركين، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملةً واحدة وإنما كانت وحيًا مفرّقًا؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن، وما كان الإنجيل إلا أقوالًا ينطق بها عيسى عليه السلام في الملإ، وكذلك الزبور نَزل قطعًا كثيرة، فالمشركون نسُوا ذلك أو جهلوا فقالوا: هلاّ نزل القرآن على محمد جملةً واحدة فنعلم أنه رسول الله.وقيل: إن قائل هذا اليهودُ أو النصارى، فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة.فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأُمية وحالة الرسل الذين أُنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفارًا تامة قط.و{نُزّل} هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم: {جملة واحدة}.وقد جاء قوله: {كذلك لنثبت به فؤادك} ردًّا على طعنهم، فهو كلام مستأنف فيه ردّ لما أرادوه من قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدة} وعُدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلامًا له بحكمة تنزيله مفرّقًا، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسيرُ عليه.وقوله: {كذلك} جواب عن قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدةً} إشارة إلى الإنزال المفهوم من {لو نُزّل عليه القرآن} وهو حالة إنزال القرآن منجَّمًا، أي أنزلناه كذلك الإنزال، أي المنجّم، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته، فاسم الإشارة في محلّ نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلًا عن الفعل.فالتقدير: أنزلناه إنزالًا كذلك الإنزال المنجَّم.فموقع جملة {كذلك} موقع الاستئناف في المحاورة.واللام في {لنثبت} متعلقة بالفعل المقدّر الذي دلّ عليه {كذَلك}.والتثبيت: جعل الشيء ثابتًا.والثبات: استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى: {كشجرة طيّبة أصلها ثابت} [إبراهيم: 24].ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى: {لكان خيرًا لهم وأشدّ تثبيتًا} [النساء: 66]، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس.والفؤاد: هنا العقل.وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتًا في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه.وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجّمًا بكلمةٍ جامعة وهي {لنثبت به فؤادك} لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل مَا به خير للنفس، فمنه ما قاله الزمخشري: الحكمة في تفريقه أن نُقوي بتفريقه فؤادك حتى تَعِيَه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم يُلقى إليه إذ ألقي إليه شيئًا بعد شيء وجُزءًا عقبَ جزء، وما قاله أيضًا: أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين. اهـ.، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبّت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ويشرح صدره.وما قاله بعد ذلك: إن تنزيله مفرّقًا وتحدّيَهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلَّما نزل شيء منها، أدخلُ في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كلّه جملة. اهـ.ومنه ما قاله الجدّ الوزير رحمه الله: إن القرآن لو لم ينزل منجّمًا على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتُها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها.وقلت: إن نزوله منجّمًا أعون لحفَّاظه على فهمه وتدبره.وقوله: {ورتلناه ترتيلًا} عطف على قوله: {كذلك}، أي أنزلناه منجّمًا ورتَّلناه، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بيّن الدلالة.واتفقت أقوال أئمة اللّغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم: ثَغر مرتَّل ورَتِل، إذا كانت أسنانه مفلّجة تشبه نَور الأقحوان.ولم يوردوا شاهدًا عليه من كلام العرب.والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن، أي نزّلناه مفرّقًا منسّقًا في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرّق في الزمان فإذا كمُل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أُنزلت جملة واحدة، ومفرّقٌ في التأليف بأنه مفصّل واضح.وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فُرّق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل.ويجوز أن يراد ب {رتّلناه} أمرنا بترتيله، أي بقراءته مرتَّلًا، أي بتمهُّل بأن لا يعجِّل في قراءته بأن تُبيّن جميع الحروف والحركات بمهل، وهو المذكور في سورة المزّمّل (4) في قوله تعالى: {ورتِّل القرآن ترتيلًا}.و{ترتيلًا} مصدر منصوب على المفعول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبيّنًا لنوع الترتيل.{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}.لما استقصَى أكثرَ معاذيرهم وتعلّلاتهم وألقَمهم أحجارَ الردّ إلى لَهَوَاتهم عطف على ذلك فذلكة جامعة تعمّ ما تقدم وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة لتَرّهاتهم.والمَثَل: المشابه.وفعل الإتيان مجازٌ في أقوالهم والمحاجّةِ به، وتنكير مَثَل في سياق النفي للتعميم، أي بكل مَثَل.والمقصود: مثَل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة ابتداء من قوله تعالى: {وقال الذين كفروا إنْ هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} [الفرقان: 4]، و{قالوا أساطير الأولين} [النحل: 24] بقرينة سَوْق هذه الجملة عقب استقصاء شبهتهم، و{قالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] {وقال الظالمون إن تَتَّبِعون إلا رجلًا مسحورًا} [الفرقان: 8] {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21] {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32].ودل على إرادة هذا المعنى من قوله: {بمثل} قوله آنفًا {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} [الفرقان: 9] عقب قوله: {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا} [الفرقان: 8].وتعدية فعل {يأتونك} إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لإفادة أن إتيانهم بالأمثال يقصدون به أن يفحموه.والإتيان مستعمل مجازًا في الإظهار.والمعنى: لا يأتونك بشُبه يشبِّهون به حالًا من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك لا يُشبه حال رسول من الله إلا أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن الله لا تلازم ما زعموه سواء كان ما أتوا به تشبيهًا صريحًا بأحوال غير الرسل كقولهم: {أساطير الأولين اكتتبها} [الفرقان: 5] وقولهم {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق} [الفرقان: 7]، وقولهم: {إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا} [الفرقان: 8]، أم كان نفي مشابَهة حاله بأحوال الرسل في زعمهم فإن نفي مشابهة الشيء يقتضي إثبات ضده كقولهم: {لولا أُنزِل علينا الملائكةُ أو نَرى ربَّنا} [الفرقان: 21] وكذلك قولهم: {لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] إذا كانوا قالوه على معنى أنه مخالف لحاللِ نزول التوراة والإنجيل.فهذا نفي تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الرُّسُل الأسبقين في زعمهم.ويدخل في هذا النوع ما يزعمون أنه تقتضيه النبوءة من المكانة عند الله أن يسأله، فيجابَ إليه كقولهم: {لولا أنزل إليه ملَكٌ فيكونَ معه نذيرًا أو يلقى إليه كنز أو تكونُ له جنة يأكل منها} [الفرقان: 7، 8].وصيغة المضارع في قوله: {لا يأتونك} تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقولهم: {أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفًا} [الإسراء: 92].والاستثناء في قوله: {إلا جئناك بالحق} استثناء من أحوال عامة يقتضيها عموم الأمثال لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال.وجملة {جئناك} حالية كما تقدم في قوله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليَأكلون الطعام} [الفرقان: 20].
|